في الملمّات الكبرى، تستحضر الأمم العظيمة رموز التاريخ البعيد والقريب، لتعزيز الانتماء ونبذ الفرقة. لذا، حريّ بالسوريين استحضار إرث الأطرش والشهبندر في هذا المنعطف الحاسم الذي تمرّ به بلادهم، وهي تواجه تركة نظام الأسد البائد الثقيلة.
في غمرة انشغال السوريين بالأوضاع الدامية في محافظة السويداء، التي فرض عليها التاريخ والجغرافيا، استدعت ذاكرة الكثيرين منهم واحدة من أكثر الشخصيات السورية وطنية وإخلاصاً: عبد الرحمن الشهبندر. لم يكن الشهبندر، المولود في دمشق عام 1879، رجل سياسة عابراً في تاريخ سورية المعاصر، بل ربما كان الأكثر حضوراً فيه. وكان من “الآباء المؤسسين” للدولة السورية بمفهومها وحدودها الماثلة اليوم، والتي تحاول جهات داخلية وخارجية تغييرها لحساب مشروعات لاوطنية. درس الطب في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها عام 1906، وكان من أوائل رجال السياسة السوريين الذين سعوا لاستقلال بلادهم عن الدولة العثمانية، متعاوناً مع البريطانيين والأميركيين لتحقيق هذه الغاية.
كان الشهبندر يؤمن بأن الاستقلال لا يتحقق فقط عبر التحرّر من الاحتلال، بل عبر بناء وعي وطني جامع، يرفض الانقسام ويؤمن بوحدة المصير. لذلك، لم يكن نشاطه مقتصراً على السياسة، بل امتد إلى الصحافة والتعليم والعمل الاجتماعي، حيث أسس صحفاً ومجلات وطنية، وشارك في تأسيس جمعيات ثقافية تهدف إلى تعزيز الهوية السورية والعربية. ولم يكن تأثير الشهبندر مقتصراً على النخب السياسية أو الثورية، بل امتد إلى عامة الناس، الذين وجدوا فيه صوتاً صادقاً يعبر عن آمالهم وآلامهم. فقد كان يحرص على التواصل المباشر مع الجماهير، من خلال الخطب العامة والمقالات الصحافية، التي كانت تُنشر في صحف دمشق وبيروت والقاهرة. وكان يرى أن بناء دولة مستقلة لا يكتمل إلا بترسيخ قيم العدالة والمواطنة، ونبذ الطائفية والانقسام، وهو ما جعله هدفاً دائماً للقوى الرجعية والمستفيدين من الفوضى.
في الملمّات الكبرى، تستحضر الأمم العظيمة رموز التاريخ البعيد والقريب، لتعزيز الانتماء ونبذ الفرقة. لذا، حريّ بالسوريين استحضار إرث الأطرش والشهبندر في هذا المنعطف الحاسم الذي تمرّ به بلادهم، وهي تواجه تركة نظام الأسد البائد الثقيلة. لقد مثّل الشهبندر نموذجاً فريداً للسياسي المثقف، والطبيب الوطني، والثائر العقلاني، الذي جمع بين الفكر والميدان، وبين الحلم والواقع، في زمن كانت فيه سورية تبحث عن ذاتها وسط ركام الاحتلال والتجزئة. واليوم، في ظل ما تمر به البلاد من تحديات وجودية، تبدو الحاجة ملحّة لاستعادة هذا النموذج، لا بوصفه ذكرى، بل منارة تهدي الطريق نحو وطن حرّ، موحّد، عادل.