مقال تحليلي عن الإعلام المصري
في اجتماع حديث بشأن الواقع الإعلامي المصري، ألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي سلسلة من التوجيهات التي يمكن أن تكون خارطة طريق لتطوير القطاع.
لكن الفجوة الكبيرة بين رؤيته والواقع الفعلي على الأرض موجودة.
المسار من الطموح إلى التطبيق مليء بالعقبات التي يجب التغلب عليها لتحقيق هدفه في بلد بصحافة حرة.
يسعى هذا المقال التحليلي إلى تفسير هذه التوجيهات الرئيسية وفحص إمكانية تنفيذها، بالإضافة إلى التحديات المحتملة التي قد تحرمها من المعنى المقصود.
تجدد التوجيه الرئيسي للحاجة إلى خارطة طريق إعلامية شاملة الشكوك حول ما إذا كان سيتم بذل جهد حقيقي نحو إصلاح جذري يحرر الإعلام بالكامل وفقًا لمعايير الدول المتقدمة، حيث يقوم الصحافة بدورها كالسلطة الرابعة.
يكمن الخطر في أن تتحول هذه الخطة إلى مشاريع تقنية مجردة – مثل المنصات الرقمية، وتحديث الاستديوهات، أو إطلاق قنوات جديدة – دون لمس القضايا الأساسية للحرية والاستقلال. تظهر التجربة الدولية أن التطوير السطحي لا يكفي، وأن التكنولوجيا بدون حرية لا يمكن أن تخلق إعلامًا مؤثرًا.
أكد الرئيس أيضًا أهمية دور الإعلام في بناء الوعي الوطني.
هذا هو متطلب أساسي، ولكن في السياق المصري، يُفسر غالبًا على أنه “إعلام التحريض”. نتيجة لذلك، يتحول إلى شكل مباشر، غير جذاب، ومبالغ فيه من الدعاية التي يتجاهلها المواطنون بشكل كبير. على العكس، تبني المجتمعات الديمقراطية الوعي العام من خلال النقاش، والتعددية، والصحافة التحقيقية، والمقالات النقدية التي تكشف الحقيقة وتحاسب المسؤولين.
لا يمكن تحقيق هذا الهدف تحت سياسة سرد واحد مقدم كالحقيقة المطلقة.
هذا الوعي هش وسينهار عند أول علامة لأزمة.
كان أحد أبرز التوجيهات هو تيسير وصول الصحفيين إلى معلومات دقيقة، خاصة خلال الأزمات. هذا تطور حيوي، حيث يتحول الصحافة بدون معلومات صحيحة إلى دعاية. ومع ذلك، العقبة تكمن في أن الثقافة السائدة تميل إلى تخزين المعلومات ومعاملتها كسرية، حتى لو كانت مجرد بيانات اقتصادية أو صحية.
في غياب الشفافية، تملأ الشائعات الفراغ، وتفقد الدولة ثقة الجمهور.
نداء الرئيس لدعم الشبان في المجال الإعلامي خطوة ضرورية، حيث يعاني الإعلام المصري من تكرار الوجوه والأساليب. لكن المخاوف تتمثل في أن هذا الدعم سيقتصر على برامج تدريب سطحية دون توفير الفرص العملية التي ستضمن للشباب الحرية في خلق محتوى جديد ومتنوع وجريء.
الصحفيون الشبان لا يحتاجون فقط إلى تدريب تقني؛ بل يحتاجون إلى بيئة مهنية تحترم استقلالهم وتسمح لهم بأن يكونوا صوت المجتمع، لا مجرد منبره.
التوجيه بالالتزام بمبدأ “رأي والرأي الآخر” هو الأبرز من بين كل ذلك، حيث يمثل نواة الإعلام الحر.
ومع ذلك، فلن يتحقق أبدًا إذا ما قتصر على التنوع ضمن إطار واحد معتمد. التعددية الحقيقية تعني السماح للأصوات المستقلة بانتقاد سياسات الحكومة بجرأة. السؤال هنا هو: هل نحن مستعدون للتعامل مع ذلك؟
بشكل نهائي، تمثل التوجيهات الخمسة للرئيس السيسي رؤية مثالية.
إن الإعلام المصري في حاجة إلى إصلاح شامل، ولكن جوهر هذا الإصلاح لا يكمن في التكنولوجيا أو برامج التدريب، بل في الحرية. الفرق الأساسي بين الإعلام في مصر والإعلام في الدول الديمقراطية هو الاستقلال والقدرة على العمل كآلية رقابية فعّالة وأداة للمساءلة.
هذا ما يمكن للمجتمعات من التكيف مع الأزمات واتخاذ القرارات المستنيرة. السؤال الذي يظل مفتوحًا هو: هل لدينا الإرادة للسماح للإعلام بأداء دوره الطبيعي؟
حتى مع هذه التوجيهات، تبقى معضلة أساسية. إذا ما تم التعامل معها بجدية، فإن الخطوة الأولى هي الاعتراف بأن الإعلام ليس تهديدًا بل أداة للإستقرار.
على هذا المسار، يمكن أن نشهد فتح فعلي لمساحات متعددة، والوصول الشامل إلى المعلومات، وحماية الصحفيين. سيصبح الإعلام شريكًا حقيقيًا للدولة في مواجهة الأزمات، قادرًا على قياس الرأي العام وكشف التحولات قبل أن تنفجر.
النتيجة ستكون بناء ثقة جديدة بين الجمهور والسلطات، محو الإعلام من عبء فاقد للمصداقية إلى قوة تدعم الاستقرار والتنمية.
ومع ذلك، تبقى إمكانية أخرى موجودة بشكل دائم: أن تحرم هذه التوجيهات من معناها العملي وتُعامل كزخرفة سياسية مجردة أو واجهة تجميلية. على هذا المسار، ستستمر السرية في السائد، والتعددية ستقتصر على المعارضة الرسمية التي تعمل ضمن حدود آمنة.
ستكرر برامج التدريب للمحترفين الشبان مجرد سرد الحكومة بدلاً من تجديده، “رأي والرأي الآخر” سيكون فارغًا، وسيستمر العلاقة العدائية مع الصحفيين.
في هذه الحالة، ستترك النتيجة فجوة دائمة بين الحكومة والجمهور وعدم القدرة على توقع الأزمات.
ما تقع بين هذين الاحتمالين، تبقى السؤال الحاسم: هل لدينا الشجاعة لاتخاذ المسار الأول، الذي يحمل مخاطر قصيرة الأجل ويعد بالاستقرار على المدى الطويل، أم سنظل أسرى للثاني، حيث يتجنب التطوير السطحي التغيير المطلوب؟
نقطة رئيسية تستحق النظر هنا هي صورة المسؤولين تحت الصحافة الحرة.
أظهرت التجربة الدولية أن المسؤولين الذين يسمحون بحرية الإعلام لا يفقدون مكانتهم؛ بل يصبحون أبطالًا حقيقيين في عيون شعوبهم.
يعيد الإعلام الحر إعادة تأكيد الشرعية بطريقة أقوى وأكثر قوة. عندما يرى الجمهور أن الإعلام يُبلغ عن إنجازات الدولة وفشلها بالتساوي، يفهمون أن ما يسمعونه حقيقي.
عندما نتطلع إلى الأفق البعيد، فإن نتائج توجيهات الرئيس السيسي لن تقتصر على اللحظة الحالية. ستمتد تأثيرها للعقد القادم، مع إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، بالإضافة إلى صورة مصر في العالم.
إذا اتبعنا مسار الحرية وتخلينا تدريجيًا عن تفكيرنا الوصاية، يمكن أن يصبح الإعلام شريكًا في تنمية الأمة.
ستدخل مصر مرحلة مختلفة. خلال عشر سنوات، يمكن أن نرى إعلامًا متنوعًا يعكس كل صوت وكل تيار، قادرًا على كشف الفساد قبل أن يتفاقم ومتابعة النقائص قبل أن تتحول إلى أزمات. ستصبح الصحافة التحقيقية أداة للإصلاح، لا تهديدًا.
سيكون الإعلام جهازاً للإنذار المبكر، ينبه الدولة إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية قبل أن تنفجر.
سيشعر المواطنون بأن أصواتهم مسموعة وأن الإعلام يمثلهم حقًا.
سيبني ذلك الثقة مع الناس ويفتح الباب أمام التنمية الاقتصادية الحقيقية استنادًا إلى الشفافية والمساءلة.
ومع ذلك، إذا استمرت هذه الحالة الحالية، وتُترجم التوجيهات إلى إصلاحات سطحية بدون مضمون، سيصبح الإعلام أكثر عزلة عن جمهوره بحلول عقد من الزمان.
سيتحول من أداة للإستقرار إلى عبء.
في النهاية، ليس من المنتج تقليص إصلاح الإعلام إلى تغيير الوجوه أو نقل المسؤولية من طرف إلى آخر. لا يمكن أن تخلق التغييرات الإدارية وحدها تحولًا حقيقيًا؛ فقد تعيد إنتاج نفس الأزمات بملامح جديدة. علاوة على ذلك، فإن الثقة بهذا الملف من قبل أولئك الذين يفتقرون إلى خبرة إعلامية عميقة أو رؤية إصلاح شاملة ستؤدي فقط إلى المزيد من الارتباك.
الإعلام هو صناعة معقدة بقواعدها واحترافيتها وروادها قادرون على دمج الاحترافية والاستقلال مع دور وطني.
ل