العظمة الحقيقية لحضارة مصر القديمة

تعتبر مصر القديمة واحدة من أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية، ولكن الكثيرين يعتقدون أن العظمة تكمن فقط في المعالم التي تعيش حتى اليوم، مثل الأهرامات والمعابد والمقابر والمسلات والتماثيل، أو حتى في كنوز الفراعنة العظمى مثل كنز الملك توت عنخ آمون وكنوز تانيس الذهبية. ولكن الحقيقة المريرة هي أن العظمة الحقيقية لمصر القديمة تكمن في الفكر الفلسفي الذي قدمته لكل البشرية.

المصريون القدماء لم يتركوا أي ميدان من ميادين العلم أو الأدب أو الفلسفة دون أن يتألقوا فيه، وهو ما جعل كل علماء اليونان والفلاسفة يعترفون بمدينتهم لمصر القديمة. وكثيرون منهم كانوا يتفاخرون حتى بأنهم درسوا في مصر تحت أقلامها وفلاسفتها وعلمائها.

من بين أكثر الاكتشافات الملحمية في الأدب المصري القديم هو نص على شكل بابيرس من فترة المملكة الوسطى، تحديدًا من عصر الملك آمنمحت الثالث (1860-1814 قبل الميلاد). وهو نسخة من نص أقدم، يعود تاريخه على الأرجح إلى نهاية المملكة القديمة، فترة شهدت اضطرابات عنيفة هزت استقرار المجتمع المصري القديم وانتهت بثورة اجتماعية ضخمة، كانت عواقبها تعاني منها مصر لأكثر من مئة عام.

ذاك البابيرس المعروف باسم “الرجل المتعب من الحياة” هو عمل أدبي موجه للوجودية. وقد اكتشفه كارل ريتشارد ليبسيوس، رئيس البعثة البروسية إلى مصر، في عام 1843، ويُحفظ حاليًا في متحف برلين في ألمانيا.

البابيرس “الرجل المتعب من الحياة” هو حوار فلسفي كتب على 184 عمودًا. يدور حول محادثة بين أحد أسلافنا العظماء ونفسه، أو “با”، التي تمثل روحه. يتحدث الرجل، الذي تسللت إليه اليأس، عن معاناته من الوحدة والألم النفسي والجسدي. لا يرى حلا سوى في إنهاء حياته بالانتحار.

في رأيه، أصبح الموت خط النجاة من معاناة الحياة: “يا نفسي، رفيقتي منذ البداية! اليوم أتحدث إليك بدون تلبيس: النهاية أمامي كالدواء الطبيب، كرائحة اللوتس عند فيضان النيل، ككشف سجين من ظلم السجن… بينما أصبحت الحياة جبلًا أثقل من النحاس، وصبري إناء مشقوق من العطش!”

روح الرجل، التي تجسد ضميره الإنساني، تبدأ محادثتها بالتعاطف. ثم تبدأ في تحذيره من أن الانتحار لن يؤدي إلى الخلاص من المعاناة. بل يمكن أن يدمر فرصه في النعيم في الحياة الآخرة ويحرمه من جنازة لائقة مع تراتيل الكهنة وحرق البخور والتقديمات.

تقول الروح: “أيها المضطرب! هل تندفع نحو الموت كمن يهرب من ظله؟ إذا كنت تبحث عن الموت قبل أوانه، من سيحرق البخور على مذبح أوزوريس؟ ستدفن دون طقوس أو طقوس، وسينسى لوح جنازتك مثل أسماء الأعداء!”

ثم، تنتقل الروح من مرحلة التهديد للرجل بأخطار الانتحار إلى تقديم النصيحة له، قائلة: “اسمع نصيحة رفيق حياتك: ليتك تبني لنفسك قبرًا من الحجر! ليتك تزرع أشجارًا لتظلل أحفادك! كن صبورًا! الشمس تشرق بعد ظلمة الليل، والموت سيرتحل بالتأكيد كفيضان النيل.”

هنا، يتحدث الرجل المتعب من الحياة عن مرارة العيش في مجتمع على شفا الانهيار بعد فقدان قيمه وتفككه، مع انهيار كل معتقداته العميقة. وردًا على روحه، يستجوب الرجل فائدة الطقوس الجنائزية، حيث تم انتهاك قدسية القبور ونهب القبور. يجادل بأن الطقوس الجنائزية والتمائم والتعويذات فشلت في حماية الأموات أنفسهم.

يقول: “انظر! بناة القبور الفاخرة هم الآن تحت الأرض! وبناة المعابد يرقدون بجوار الفقراء في حقول الآلهة! أصبحت تلك التماثيل العظيمة مثل أطلال مغبرة، وأسماء الملوك ابتلعتها النسيان كسحب في ريح الصحراء… فما فائدة قبر مهيب إذا صار صاحبه طعامًا للديدان في ظلمة الأرض؟ وأين التقديمات من الأبناء التي وعدنا بها؟ أما اللوحات الجنائزية المذهبة، فقد تم سرقتها وتستخدم الآن كرفوف في منازل اللصوص! لقد نسينا من مات، ومن يتذكرنا سيموت! استمع، يا نفسي! الموت وحده صياد عادل، لا يغفر لأمير… ولا يرحم عبد فقير.”

تواصل الروح في إقناع الرجل، حثه على التخلي عن أفكاره المتشائمة والعودة إلى حبه للحياة. تقول: “لا تكن مثل تمساح يئن في الوحل! أنت إنسان خلقك الله لتدرك أسرار الوجود!… ارمي همومك كثوب ممزق! امسك بالحياة كما يمسك الطفل بإصبع والده. عش لترى زهرة اللوتس تفتح كل صباح، وتسمع أنغام الصيادين عند الغروب… وعندما يأتي الموت بالضرورة إليك في النهاية، مثل ضيف شبع بعد الوليمة، سأحملك على أجنحتي كالفينيق إلى عالم الخلود!”

يبدو أن الروح نجحت في النهاية في إقناع الرجل بأن الانتحار عديم الجدوى وأن الحياة، على الرغم من الألم، تستحق الاحتفاظ بها.

من المهم التأكيد على أن هذا الحوار الفلسفي الرائع بين الرجل وروحه، أو الضمير الإنساني، هو أقدم نموذج فلسفي لمحادثة بين شخص وذاته الداخلية من العالم القديم. لم يقتصر على تشخيص المشكلة ولكنه ذهب بعيدًا ليقدم علاجًا للاكتئاب النفسي، ويقدم حلولًا مقنعة للتغلب عليه.

لذلك، لا يمكننا المبالغة في القول بأن مبادئ علم النفس والطب النفسي بدأت في مصر القديمة، حضارة ستواصل تدهشنا بكل سر جديد للفراعنة الذين نكتشفه.